Wednesday 8 June 2016

ابن حماة البار الذي أنجدنا في المطار



ابن حماة البار الذي أنجدنا في المطار 

صعدت في الحافلة (ذات الأربعين مقعدا) المتجهة من قريتي إلى جبلة، ومنها إلى دمشق ثم إلى الاتحاد السوفييتي، وتلوت دعاء السفر، وخانتني الدموع، وراودني شعور شبه مؤكد بأنني لن أعود إلى قريتي الجميلة واسمها: "البساتين"، وألقيت نظرة الوداع على أجمة الأشجار الكثيرة التي تغمر قريتنا ومعظمها من الجوز، وتخيلت أصداء الأحاديث المستقبلية عني "ذهب ولم يعد". إذ ظننت أن ستبتلعني تلك الأرض الشاسعة المضطربة. لقد كان ذلك الإيفاد حينها مغامرة مجهولة بكل ما تعنيه الكلمة، فتلك البلاد كانت مضطربة جدا حينذاك عام 1990، وكانت أزمتها حديث الشعوب والأمم، كما هو الحال في سوريا اليوم. ففي كل مقاطعة كان هناك حرب، وفي كل يوم خبر مفاجئ، والكثيرون من الموفدين استنكفوا عن الإيفاد حينذاك، وبعضهم عاد بعدما وصل وشاهد الأوضاع هناك.
كانت حقيبتي خفيفة لأني لا أحب كثرة الأمتعة، فمن طبعي أنني أعتبر أن البلد الذي سأذهب إليه فيه ما يكفيني، وعلي أن أعيش كما يعيش الناس هناك، ولا داعي لأن أحمل الحاجات المحببة أو أنواع الأطعمة المفضلة وغيرها في ترحالي.
في دمشق نسيني منسق الرحلة ولم يدرج اسمي في رحلة الطائرة الأولى، وظننت أنني فقدت فرصة الإيفاد، لكنه قال: "هذا خطئي سأرسلك في الأسبوع القادم". فعرجت على منزل أختي في دمشق في انتظار الموعد، وفي يوم السفر رافقني ابن خالتي وصديقي الضابط صالح إلى المطار بعد أذان الفجر. 
قبل المغادرة، أوصانا منسق عملية الإيفاد وصيتين رئيسيتين: عدم الخوض في السياسة، والحذر من مرض الأيدز، الذي كان موضة تلك الفترة، ثم قال لنا إن السفارة سوف ترسل من يستقبلنا في المطار. لكننا عندما هبطنا فيه، وجدنا أنفسنا في البهو نتطلع يمنة ويسرة بحثا عن وجه أليف دون جدوى. 
بعض الزملاء استل قصاصة ورقية كان قد تزود بها في الوطن وعليها عنوان ما باللغة الروسية حسبما أرشده المعارف، ثم استقل سيارة أجرة إلى العنوان. ومر الزمن دقائق وساعات وحلّ الليل... ولا حس ولا خبر ولا من يتكلم العربية. أربعون دكتورا مستقبليا لا أحد يهتم بما سيحدث لهم في أسوأ فترة مرّ بها الاتحاد السوفييتي.
بقيت مع ثلة من الزملاء نحوص، وندور في بهو المطار. وفجأة لمحت شخصا قادما من جهة البوابة توسمت فيه الملامح السورية، فاقتربت منه وقلت له: "الأخ عربي"، قال "نعم". قلت له:"نحن طلاب دكتوراه قادمون من سوريا لأول مرة ويفترض أن يستقبلنا وفد من السفارة، فقال:"أنا قادم لاستقبال أحد أقاربي ولا علاقة لي بهذا الموضوع، ولكن إذا لم يأت أحد فهذا عنواني"، وكتبت العنوان والاسم على دفتري، ثم استخرج من جيبه قبضة من النقود (الروبلات) وناولني إياها.
ومرت السنون وعدت من الإيفاد، والاسم ما يزال على دفتري، وصرت كلما وجدت شخصا يحمل اسمه الكنية نفسها، أسأله هل تعرف فلانا؟، لكنني لم أجد له سبيلا.
وفي خريف عام 2011 كان عندي بحث علمي فيه جوانب أدبية، ووجدت أنه من الأنسب تقديمه للنشر في مجلة "التراث العربي" التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب، فذهبت إلى مقر الاتحاد، وتوجهت إلى مكتب سكرتير المجلة الذي بدوره قادني إلى مكتب السيد رئيس تحرير المجلة، وكان اسمه يحمل الكنية نفسها، كنية الشخص الذي صادفته في المطار في موسكو، ولما صافحته سألته هل كنت في موسكو عام 1990، قال "نعم".
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=784931598309946&set=a.664505043685936.1073741831.100003793383044&type=3

No comments:

Post a Comment